الثلاثاء، 3 نوفمبر 2009

علمتنى نمله





إن وقفة اليوم مع دروس عظيمة في الإدارة من نملة, ربما تكون مستغربةً من الكثيرين أو البعض؛ فكيف يمكن للإنسان بكل ما وهبه الله من علم وعقل وحضارة أن يتعلم من نملة دروس, وأي دروس؛ إنها توصف بأنها دروس عظيمة, وفي الإدارة...!!

تلك الحشرة التي قد لا ينظر إليها الإنسان إلا من كونها مصدرًا للإزعاج والقلق والأذى.. نتعلم منها ما لا نتعلمه من البشر؟!

ألا يكفينا الهدهد؟ فهو على الأقل طائر حسن الهيئة، ومعقول الحجم، وطيب السمعة، وجميل المنظر.. ولكن نملة؟!

نعم.. إنها نملة، ولكنها قد نطقت وتصرفت من منطلق الحكمة, إنها نملة سليمان التي شاء الله سبحانه وتعالى أن يعرفنا منطقها وحكمتها من سليمان نفسه الذي علمه لغة الحيوان, والطير, والحشرات وسائر المخلوقات.

يكفي يا أخي أن تعلم أن الله سبحانه وتعالى قد سمَّى سورة كاملة من سور القرآن آياتها (93 آية) بسورة النمل, رغم أن ذكر النمل هنا لم يرد إلا في جزء من آية من كل هذه الآيات..!!

فهل يحتاج الأمر منا وقفةً ولو قصيرة أمام هذه الكلمات التي وردت في القرآن؛ لنتعلم منها ونأخذ الدروس والعبر في الإدارة.

أنا شخصيًّا أعتقد أن الأمر يستحق.. وهيا بنا نعيش مع نملة؛ ولكنها عظيمة, تعلمنا دروسًا عظيمة في الإدارة.

قالت نملة
بداية، وقبل البدء في سرد الدروس العظيمة؛ علينا أن نرجع إلى السياق العام الذي ورد فيه الموضوع في القرآن كما هو, قال تعالى: ﴿وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يأيها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)﴾ (النمل).

الدرس الأول: إتقان الأداء:
لا شك أن جودة الأداء وإتقان العمل من أهم ما يشغل الإدارة الآن؛ حتى إننا لا نكاد نجد أمرًا من أمور الإدارة الآن إلا وقد اقترن بتلك الموجة الجديدة، والتي أطلق عليها الجودة الشاملة واختصارها (َTQM)، والتي يمكن تلخيصها بالإتقان في العمل؛ بأن يؤدي كل فرد في أي مكان بالمنظمة التي يعمل بها, وفي أي وقت, وفي كل مرة, ومن أول مرة, عمله بأعلى درجة من الإتقان دون خطأ أو تقصير, وذلك من خلال منظومة تعاقدية- وإن كانت غير مكتوبة- تربط بين جميع أفراد ووحدات وأقسام وأجزاء المنظمة ببعضها البعض في إطار منظومة متكاملة، يؤدي الخلل في أي جزء منها بالتأثير السلبي على باقي الأجزاء، مصداقًا لوصف الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك العلاقة التي تربط بين المؤمنين "بالجسد الواحد" في التعاطف والتراحم, "وبالبنيان يشد بعضه بعضًا" في القوة والتماسك.

وخلاصة الإتقان العام في أية منظمة من أي فرد في أي مكان؛ هو الامتثال لأمر الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: من الآية 1).

وهذا هو ما نستشفه من موقف النملة التي أمامنا؛ فإنها تؤدي الدور المنوط بها على خير وجه ممكن, أقل ما يمكن أن نصفه به أعلى درجات الإتقان, ذلك الإتقان الذي يصل إلى تحقيق الهدف بكفاءة وفعالية, فلقد أنذرت قومها في الوقت المناسب، وأنقذتهم من كارثة محققة لولا ما قامت به بإخلاص وإتقان, والذي سوف يبرزه بشكل أكبر وأوضح باقي الدروس.

الدرس الثاني: اليقظة والانتباه والالتزام:
وهم من أهم متطلبات نجاح القيام بمثل ذلك الدور الذي أدته النملة في الموقف الذي أمامنا, فبدونهم لا يمكن تصور أداء كامل للدور, بل إن غفوة أو غفلة واحدة قد يترتب عليها هلاك كامل ودمار ماحق لكافة أفراد المنظمة, ومن ثم فإن من دواعي الإتقان والإحسان أن يكون كل فرد في قيامه بالدور المنوط به على أعلى درجة من درجات اليقظة والانتباه وبشكل كامل ومستمر, فهو إنما يقف على ثغر من الثغور التنظيمية, ولا يجوز أن تؤتي المنظمة من قبله ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)﴾ (الأنفال).

فالخلل من قِبل فرد أو بضعة أفراد في المنظمة؛ لا يعود بالضرر عليهم وحدهم فقط، وإنما يعود بالضرر والخسران على الكافة, ولقد كان في موقف بعض الرماة يوم أحد أعظم دليل على هذا الدرس في اليقظة والانتباه والالتزام التام.

الدرس الثالث: الهمة والإرادة العالية:
نفهم أن كل أمر عظيم يحتاج إلى همة وإرادة عالية لإتمامه, وأعدى أعداء النفس ضعف الهمة والإرادة؛ لذا يقول الشاعر:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم
ويقول تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)﴾ (التوبة).

من هنا نعلم أن وراء تصرف النملة وإخلاصها وإصرارها والتزامها همة عالية, وإلا لكان التسليم والقعود والكسل لأي سبب مهما كان تافهًا.

الدرس الرابع: العزيمة الماضية:
إذا كانت الهمة إعداد العدة، ووضع الخطة، والأخذ بكافة أسباب النجاح لأداء مهمة معينة؛ فإن العزيمة يقصد بها شدة المضاء، وعدم التردد عند التنفيذ لأي سبب من الأسباب المقعدة عن العمل ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين (159)﴾ (آل عمران).

وقديمًا قال المتنبي:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا
ويتضح من موقف النملة، أنها ليست فقط ذات همة عالية في الأخذ بالأسباب؛ وإنما هي تنهي ما بدأت، وتواصل الجهد لتنفيذ مهمتها لآخر مدى، ولا يوقفها شيء عن تحقيق تلك المهمة ولو كان فيه نهاية لحياتها, وهذا من عزائم الأمور التي قد لا نراها تتوافر لدى الكثير من المديرين أو الأفراد العاديين؛ فلو أن النملة ترددت ولو برهة، أو تباطأت لما استطاعت أداء مهمتها في إنقاذ قومها من هذا الخطر المحدق, وسوف يوضح هذا المعنى الدرس التالي والمتعلق بالتضحية.

الدرس الخامس: التضحية وإنكار الذات:
لا عمل بلا إتقان وجهاد, ولا جهاد بلا تضحية، وكل غاية أو هدف نبيل لا شك يحتاج إلى جهاد وتضحية في سبيله, والتضحية تكون بالوقت أو المال أو بالنفس وهو أعلاها, وكلما زاد إخلاص الفرد لعمله وإيمانه برسالته وقويت همته وعلت عزيمته؛ فإن استعداده للتضحية في سبيل هذه الغاية يكون في أوجه.

ولعل ذلك يحتاج درجة عالية من الانتماء، بل من الالتقاء بين كل من أهداف الفرد والمنظمة لدرجة الانصهار وهو أقصى ما تتمناه أي إدارة من الفرد في علاقته بالمنظمة, بل قل أقصى ما تحلم به!.

والنملة باعتبارها أحد أفراد جنسها المكلفين فيما يبدو بأداء مهمة معينة، أقرب ما تكون إلى الاستطلاع أو الإنذار المبكر، وقد أبدت أعلى درجات التضحية في سبيل قومها؛ حينما سارعت بكل ما تملك من قوة ضعيفة أمام سليمان وجنوده لتنذر قومها قبل أن يدهمهم, منادية عليهم ومرسلة بإشارات ورسائل لهم, وسليمان- لحسن حظها يسمعها- وكان بوسعها أن تنتحي جانبًا، ولا تفكر إلا في إنقاذ نفسها، مبررة ذلك بأنها إذا سارت لإخبار قومها في نفس خط سير الجيش؛ فإما أن يدهمها، وإما أن يصل قبلها ولا تتمكن من الإبلاغ في الوقت المناسب على أية حال, واختارت هي المخاطرة في الاستمرار لإبلاغ قومها بالسير في نفس خط سير واتجاه الجيش؛ ما يدل على التضحية العالية وإنكار الذات, وأي درس عظيم هذا, ولحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى أظهر لنا هذا المنطق بفهم سليمان عليه السلام لغة ومنطق الحيوان، وليس مجرد كلامه ولكن منطقه وحكمته التي أجراها الله له.

الدرس السادس: النظام وتقسيم العمل:
كلنا يعرف إلى أي درجة يتميز النمل بالنظام والترتيب وحسن التدبير, بل والتخطيط للمستقبل, وفي هذا الموقف نستنتج كم هناك من نظام وتقسيم للعمل والمهام والمسئوليات, فكأن هذه النملة منوط بها أمر معين؛ وهو مهمة الحراسة والاستطلاع من بعد للإنذار والتنبيه ضد أي مخاطر قبل وقوعها بوقت كافٍ, فهذه النملة كما ذكر في القرآن نملة, مجرد نملة عادية ليست زعيمة النمل ولا رئيسة "قالت نملة"، وإنما هي تؤدي مهمة كغيرها, الذي يقوم كل منهم بمهمة ينشغل بأدائها ويتعاون مع الآخرين في تنفيذها إذا تطلب الأمر ذلك, في شكل منظومة متناغمة متكاملة ومتناسقة، يتوافر لها عنصرا التنظيم وجوهره الذي يتضمن كلاًّ من التقسيم والتنسيق بأعلى درجة من الكفاءة والفعالية؛ فهذه النملة لا تعمل اعتباطًا ولا عشوائيًّا ولا بهواها, وإنما في ظل منظومة متكاملة بشكل رائع.

الدرس السابع: إدارة الأزمات:
هذا الدرس من الدروس المهمة جدًّا في إدارة الأزمات والكوارث؛ حيث يعتبر أهم مبدأ في إدارة أي أزمة هو تجنب حدوثها من الأصل، ولا يمكن ذلك إلا من خلال سيناريو متوقع للاحتمال الأسوأ, بإثارة سؤال ماذا لو حدث الأسوأ؟ والأسوأ هنا؛ هو قدوم مجموعة كبيرة من البشر تسير في اتجاه مملكة النمل دون قصد في هدمها، وتحطم كل ما فيها ومن فيها, وهذا يمثل كارثة بكل المقاييس بالنسبة لهم, ومن ثم كان لا بد من العمل على تقليل احتمال وقوع مثل هذا الأمر, وتقليل الخسائر المترتبة عليه إن وقع قدر الإمكان, والأفضل في هذه الحالة؛ هو أن يتم العمل على محور الاحتمال، وذلك بإنشاء محطات للإنذار المبكر وقراءة نذر الأزمة قبل وقوعها بوقت كافٍ والاستعداد لها.

ونفهم مما قامت به النملة في هذا الموقف أنها قد قامت بأعظم إنذار مبكر لتنبيه قومها باحتمال خطر مؤكد قادم؛ حتى وإن كلَّفها ذلك حياتها, كما سبق أن ذكرنا, كما أن هناك احتمال لأن يكون سليمان وجنوده في سيرهم في الاتجاه الذي رأته النملة أقرب إلى تدمير مملكة النمل، وكذلك من المحتمل أن ينحرفوا عنها أو يبتعدوا لأي سبب من الأسباب.. كل ذلك وارد, ولكن النملة لم تدع الاحتمالات الأخرى تسيطر عليها، وتقول مثلاً: ستمر الأمور بخير بإذن الله وربنا يسلمها... فقط, وإنما اتخذت سبيل الإنذار المبكر من خطر محدق حتى تتجنب الأسوأ في حالة حدوثه.

الدرس الثامن: المبادرة:
وروح المبادرة هنا تظهر بشكل واضح في السعي لأداء المهمة، دون انتظار أو تواكل على غيرها، أو انتظار لسواها كي يقوم هو بالمهمة, قائلة مثلاً لماذا أنا, ولكنها تجردت لقيام المهمة متمثلة قول طرفة بن العبد في معلقته:

إذا القوم قالوا: مَنْ فتى؟ خِلْتُ أنَّني عُنيتُ فلم أَجْبُن ولم أتبلَّدِ
الدرس التاسع: الإنجاز:
فإذا كانت المبادرة هي قمة الإقدام بفكرة أو الاستعداد لأداء مهمة؛ فإن الإنجاز هو الوصول بها إلى دائرة التنفيذ والتمام وكلاهما "المبادرة والإنجاز" روح الإدارة هو ما فعلته النملة تمامًا, فبادرت وأنجزت.

الدرس العاشر: الشعور بالمسئولية:
فما كان لكل ما سبق أن يحدث دون وجود درجة عالية من الإحساس بالمسئولية التي تستشعرها نملة، ربما في أسفل الهرم التنظيمي من عموم النمل, وكأنها المسئول الأول عن قومها, ومثل هذا الشعور والإحساس العام بالمسئولية في كافة أرجاء أي تنظيم من أعلاه إلى أدناه؛ هو أقصى ما تطمح وتحلم أي إدارة بتحقيقه في أية منظمة تديرها؛ لكننا وجدناه هنا واقعًا ملموسًا، وهذا هو درس الدروس العظيمة وقمتها من وجهة نظري، والذي سوف أتوقف عنده لا لشيء، إلا لأن هذا هو ما أفاء الله به علي؛ ولعل هناك المزيد من الدروس والعبر فهل نتعلم؟ وهل نعمل لكي نكون مثل النمل؟! وهل أدركت الآن.. لماذا توجد سورة في القرآن باسم النمل؟
---------

الجمعة، 30 أكتوبر 2009

جزاء العمل الصالح



حمدًا لله تعالى، وصلاةً وسلامًا على سيدنا وحبيبنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد..
فهذه تأملات قرآنية نحاول من خلالها أن نعيش مع القرآن بالروح والقلب والعقل وجميع الجوارح، حتى نستمتع بالقرآن الكريم، فنُقبل على قراءته، متدبرين، متأملين، فاقهين، فيعيننا هذا على العمل به، والدعوة إليه، والاستمساك به، خاصةً ونحن في شهر القرآن، شهر التوبة والغفران.

وفي هذه الحلقة، سوف تكون تأملاتنا في الجزء الأول من سورة البقرة، والتي هي من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة. وهي أطول سور القرآن على الإطلاق. ولقد روي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "أي القرآن أفضل؟" فقالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "سورة البقرة"، ثم قال: "وأيها أفضل؟" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "آية الكرسي". وهذه السورة مدنية. وآياتها مائتان وسبع وثمانون على المشهور، وقيل: ست وثمانون. وفيها: آخر آية نزلت، وهي قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)﴾ (البقرة)، وقد نزلت هذه الآية في حجة الوداع يوم النحر، ولا تخرج بذلك عن كونها مدنيةً.

ووجه مناسبتها لسورة الفاتحة، أن الفاتحة مشتملة على بيان الربوبية أولاً، والعبودية ثانيًا، وطلب الهداية في المقاصد الدينية، والمطالب اليقينية ثالثًا، وكذا سورة البقرة مشتملة على بيان معرفة الرب أولاً، كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة: من الآية 3)، وأمثاله وعلى العبادات وما يتعلق بها ثانيًا، وعلى طلب ما يحتاج إليه في العاجل والآجل آخرًا، وأيضًا في آخر الفاتحة، طلب الهداية. وفي أول البقرة إيماءً إلى ذلك بقوله: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: من الآية 2)، ولما افتتح سبحانه وتعالى الفاتحة بالأمر الظاهر وكان وراء كل ظاهر باطن، افتتح هذه السورة بما بطن سره وخفي، إلا على من شاء الله تعالى أمره، فقال سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿الم (1)﴾ (البقرة).

ولقد ورد في فضل هذه السورة أحاديث كثيرة، ومن ذلك: ما روي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعث بعثًا، وهم ذوو عدد فاستقرأهم، فاستقرأ كل رجل منهم ما معه من القرآن، فأتى على رجل منهم من أحدثهم سِنًّا، فقال: "ما معك يا فلان؟" قال: معي كذا وكذا، وسورة البقرة. قال: "أمعك سورة البقرة؟" فقال: نعم. قال: "فاذهب فأنت أميرهم"، فقال رجل من أشرافهم: والله يا رسول الله، ما منعني أن أتعلم سورة البقرة، إلا خشية ألا أقوم بها! فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "تعلموا القرآن، فاقرءوه وأقرئوه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به، كمثل جراب محشو مسكًا، يفوح بريحه كل مكان، ومثل من تعلمه فيرقد، وهو في جوفه، كمثل جراب وكئ على مسك" (قال أبو عيسى هذا حديث حسن وقد رواه الليث بن سعد عن سعيد المقبري عن عطاء مولى أبي أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ولم يذكر فيه عن أبي هريرة).

ومن ذلك ما روي عن أسيد بن حضير- رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله، بينما أنا أقرأ الليلة سورة البقرة، إذ سمعت وجبة من خلفي، فظننت أن فرسي انطلق، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "اقرأ أبا عتيك"، فالتفت فإذا مثل المصباح مدلى بين السماء والأرض، ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "اقرأ أبا عتيك"، فقال: يا رسول الله فما استطعت أن أمضي، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "تلك الملائكة تنزلت لقراءة سورة البقرة! أما إنك لو مضيت لرأيت العجائب" (رواه ابن حبان في صحيحه ورواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد بنحوه).

ومن ذلك قوله- صلى الله عليه وسلم-: "اقرءوا القرآن، فإنه يأتي شفيعًا يوم القيامة لصاحبه، اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة، كأنهما غيابتان، أو كأنهما غمامتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة" (حديث صحيح. والبطلة: هم السحرة).

وبعد التعريف بالسورة وفضلها، فإنه سوف تكون لنا وقفات تأملية مع بعض الآيات، التي تلفت نظرنا في الجزء الأول من هذه السورة الكريمة، ومن ذلك: قوله تعالى ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)﴾ (البقرة).

إن الله تعالى، يعطي كل إنسان على حسب ما قدم لنفسه في دنياه ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا﴾ (الكهف: من الآية 49)، فمن كان عبدًا لهواه وشهواته، أو منصبه، أو ماله، أو لزوجه وولده، فإنه سوف يجد الجزاء الأوفى، الذي ينتظره، فهو سوف يأكل من ثمار غرسه، ومن نتاج كسبه وسعيه، فلقد أوقد على نفسه نار الآخرة في الدنيا بمعاصيه، فكان وقودًا للنار، ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: من الآية 24)، وأما من كان عبدًا لربه، وطائعًا لنبيه، وخائفًا من عذاب الجبار، وقد آثر الآخرة على الدنيا، وعمل لما بعد الموت، فإنه سوف يرى البشريات في الدنيا قبل الموت، وعند الموت، وبعد الموت ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾ (فصلت).

ويعلق ابن القيم على فريقي الجنة والنار فيقول: "أقام الله سبحانه هذا الخلق بين الأمر والنهي والعطاء والمنع،‏ فافترقوا فرقتين‏:‏ فرقة قابلت أمره بالترك، ونهيه بالارتكاب، وعطاءه بالغفلة عن الشكر، ومنعه بالسخط، وهؤلاء أعداؤه، وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك‏،‏ وقسم قالوا‏:‏ إنما نحن عبيدك، فإن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة، وإن نهيتنا أمسكنا نفوسنا وكففناها عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرعنا إليك وذكرناك‏،‏ فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة الدنيا، فإذا مزقه عليهم الموت، صاروا إلى النعيم المقيم وقرة الأعين،‏ كما أن أولئك ليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة، فإذا مزقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم‏.‏

فإذا تصادمت جيوش الدنيا والآخرة في قلبك، وأردت أن تعلم من أي الفريقين أنت، فانظر مع من تميل منهما ومع من تقاتل، إذ لا يمكنك الوقوف بين الجيشين، فأنت مع أحدهما لا محالة‏.‏ فالفريق الأول استغشوا الهوى واستنصحوا العقل فشاوروه، وفرغوا قلوبهم للفكر فيما خلقوا له، وجوارحهم للعمل بما أمروا به، وأوقاتهم لعمارتها بما يعمر منازلهم في الآخرة، واستظهروا على سرعة الأجل بالمبادرة إلى العمل، وسكنوا الدنيا وقلوبهم مسافرة عنها، واستوطنوا الآخرة قبل انتقالهم إليها، واهتموا بالله وطاعته على قدر حاجتهم إليه، وتزودوا للآخرة على قدر مقامهم فيها، فعجل لهم سبحانه من نعيم الجنة وروحها أن آنسهم بنفسه وأقبل بقلوبهم إليه وجمعها على محبته وشوقهم إلى لقائه ونعمهم بقربه وفرغ قلوبهم مما ملأ قلوب غيرهم من محبة الدنيا والهم والحزن على فواتها والغم من خوف ذهابها، فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانهم، والملأ الأعلى بأرواحهم‏.


فيا لها من بشرى سارة للمؤمنين العاملين على الطريق المستقيم، الذين يعملون الصالحات، فهم يعملون الصالح والنافع من الأعمال، التي تنفعهم وتنفع بني جنسهم ودينهم ووطنهم، لأنهم ليسوا أنانيين يهتمون بأنفسهم دون غيرهم. وهذه هي صفة المسلم، الذي يعرف الغاية من خلقه، ودوره في الحياة، فغايته أن تدخل السعادة كل بيت، وأن يهنأ كل فرد من أفراد الأمة، وأن تعيش الأمة في عزة وكرامة، ولهذا استحق هذا الصنف من البشر الثواب الجزيل والجزاء الأوفى: ﴿وَبَشِّرْ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)﴾ (البقرة).

لقد وصف الله الجنة، بأنها تجري من تحتها الأنهار، أي من تحت أشجارها وغرفها. وقد جاء في الحديث: "أن أنهارها تجري في غير أخدود"، وجاء في الكوثر: "أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف"، ولا منافاة بينهما، فطينها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر. نسأل الله من فضله إنه هو البر الرحيم.

ولقد روي عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "أنهار الجنة تفجر من تحت تلال، أو من تحت جبال المسك". وقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ قال يعرفون أسماءه، كما كانوا في الدنيا، التفاح بالتفاح، والرمان بالرمان. قالوا: في الجنة هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، وأتوا به متشابهًا يعرفونه، وليس هو مثله في الطعم.

وقوله تعالى ﴿وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ﴾ مطهرة من القذر والأذى، وقال مجاهد: من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد. وقوله تعالى ﴿وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ هذا هو تمام السعادة فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء، بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام.

وأخيرًا فإننا نتأمل حال أول زمرة تدخل الجنة، ونتأمل حال أدنى أهل الجنة منزلاً. "إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة، لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يتمخطون، أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين، أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا في السماء" (حديث صحيح).

"وإن أدنى أهل الجنة منزلاً، رجل صرف الله وجهه عن النار قِبَلَ الجنة، ومثل له شجرة ذات ظل، فقال أي رب قدمني إلى هذه الشجرة فأكون في ظلها، فقال الله: هل عسيت أن تسألني غيره.؟ قال: لا، وعزتك، فقدمه الله إليها. ومثل له شجرة ذات ظل وثمر، فقال: أي رب، قدمني إلى هذه الشجرة فأكون في ظلها وآكل من ثمرها. فقال الله: هل عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره.؟ فيقول: لا، وعزتك فيقدمه الله إليها، فيمثل الله له شجرة أخرى ذات ظل وثمر وماء، فيقول: أي رب، قدمني إلى هذه الشجرة، فأكون في ظلها، وآكل من ثمرها، وأشرب من مائها، فيقول: له هل عسيت إن فعلت أن تسألني غيره؟ فيقول: لا، وعزتك لا أسألك غيره، فيقدمه الله إليها. فيبرز له باب الجنة، فيقول: أي رب، قدمني إلى باب الجنة، فأكون تحت سجاف الجنة، فأرى أهلها، فيقدمه الله إليها، فيرى الجنة وما فيها فيقول أي رب أدخلني الجنة فيدخل الجنة فإذا دخل الجنة قال هذا لي فيقول الله له تمن فيتمنى ويذكره الله عز وجل سل من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله: هو لك وعشرة أمثاله، ثم يدخله الله الجنة فيَدخُل عليه زوجتاه من الحور العين، فيقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا، وأحيانا لك. فيقول: ما أعطي أحد مثل ما أعطيت. وأدنى أهل النار عذابًا، ينعل من نار بنعلين يغلي دماغه من حرارة نعليه" (حديث صحيح).

أخي الحبيب، تأمل هذا جيدًا، وإياك أن تفوتك هذه الفرصة، وأنت على عتبات شهر كريم، تتعبد فيه لرب كريم، وإذا فارقت الدنيا، أقبلت على رب كريم، ونزلت ضيفًا على الكريم، وإذا حاسبك، حاسبك حساب الكريم. فما أعظمه من رب كريم! يغفر الذنب العظيم، ويتوب على المذنبين، ويغفر للمستغفرين. أسأل الله العظيم رب العرش العظيم، أن يجعلنا من التوابين المتطهرين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون

الله رقيب

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ
رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

الأحد، 25 أكتوبر 2009


بسم الله الرحمن الرحيم


اهلا وسهلا بكل المشاركين على هذه المدونة اود ان تكون عند حسن ظنكم


مدونة:عشها صح

الحج دروس وعبر

كما سنرى أيها الأحبة من خلال هذه الرحلة المباركة، ومن خلال المناسك؛ أن رحلة الحج ترمز بشكل قوي إلى موضوع عدم القرار، وعدم الإخلاد إلى ال...