كما سنرى أيها الأحبة من خلال هذه الرحلة المباركة، ومن خلال المناسك؛ أن رحلة الحج ترمز بشكل قوي إلى موضوع عدم القرار، وعدم الإخلاد إلى الأرض والركون إليها، أو إن شئت فقل: "الرحيل"؛ لأنه مهما حللنا في مكان، ومهما استوطناه وعمَّرنا فيه؛ فلا بد من الرحيل، فالدنيا كالقنطرة طالت أم قصرت.
- في بلدك تترك أهلك وأحبابك وأموالك وديارك وفراشك؛ لتحمل حقيبة بها ما يبلغك هذه الرحلة، وتذهب إلى مكان جديد... رحيل... رحيل.
- ثم تذهب إلى مكة، وتقوم بمناسك العمرة، ثم تتحلل من عمرتك، وتجلس في محل إقامتك، وتستقر على فراشك، ويهدأ بالك بالصلاة في الحرم والعبادة والذكر، ثم يأتي الموعد... المناسك.. يوم 8 ذي الحجة، فإذا بك تجهِّز حقيبتك للأيام القادمة، وتترك مكانك الجديد الذي استقر بك المقام فيه، وتذهب إلى هذه الأماكن الجديدة... رحيل.. رحيل.
- ثم تمكث في منى من الظهر حتى نهاية اليوم، وتأنس بالمكان وتتأقلم معه، ثم بعد الفجر تحمل حقيبتك على ظهرك وتتوجه إلى عرفات الله... الرحيل.. الرحيل.
- ثم تبقى في عرفات اليوم كله مناجيًا ربك، ذاكرًا له، شاكرًا لأنعمه داعيًا ملبيًا مهللاًّ حتى تصفرّ الشمس وتبدأ في الغروب، فإذا بك مسرعًا تجري إلى حقيبتك فتجمعها وتحملها على ظهرك... الرحيل.. الرحيل.
- فتذهب إلى مزدلفة، وتخرج فراشك من حقيبتك، وتمدد جسدك- بعد صلاة المغرب والعشاء جمعًا- حتى الفجر.. فإذا من يوقظك للفجر، فتقوم مسرعًا بجمع أمتعتك وحمل حقيبتك على ظهرك... الرحيل.. الرحيل.
- فتتوجه إلى منى مرة ثانية، ومنى هذه المرة بلدة تنشأ في خلال يوم، ومدينة تعمر، ومعسكر ينصب، ويعيش فيه كل الجنسيات وكل اللغات، فأول اليوم مرهق شاق؛ رمي الجمرات.. الذبح.. ثم التحلل، وربما ذهب البعض للطواف والسعي والعودة... فيستريح ويتأقلم مرة ثانية بالمكان، فإذا به في اليوم الثاني يتعرف على من حوله من المخيمات؛ سواء أكانوا من بلده أم من بلاد أخرى.. ولربما قام البعض بمسابقات ثقافية قرآنية بين بعض الأفواج.. جو جميل، إيماني رباني قرآني.. رحمة.. مودة.. بر.. صلة.. ثم اليوم الرابع من الظهر تجمع الحقيبة، وتضعها على ظهرك بعد كل ذلك الجو الجميل... الرحيل.. الرحيل.
- ثم تذهب إلى مكة.. إلى فراشك القديم الذي بعدت عنه خمس أو ست ليال، فتأنس به، وتشتاق إليه، وتمكث في مكة ما شاء الله لك إلى يوم الانصراف، فطواف الوداع وجمع الحقائب، ثم... الرحيل.. الرحيل.
إلى أين هذه المرة؟... إلى المدينة المنورة... بلد الحبيب صلى الله عليه وسلم.
- فتذهب إلى المدينة، ويستريح جسدك في حجرتك، وتزور المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتسلم عليه، وتجلس إلى جواره في الروضة الشريفة، وتذهب الذكريات والتاريخ، وتجيء من هنا وهناك.. صحابة.. غزوات.. فتوحات.
ثم إلى اليوم الموعود... الانصراف من المدينة... الرحيل.. الرحيل.
مواقف.. تربية.. تعليم.. هدي.
الإنسان والحج وعدم التثاقل إلى الأرض والارتباط بها... فهي رحلة تعوِّد على التخفف، تعوِّد على الرحيل.
كما أنها في المقام الأعلى رحلة تسليم.. رحلة... لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك.
إلى الملتقى في الجنة إن شاء الله...
إلى الملتقى في الجنة إن شاء الله...